طالما حسبت أن المعرفة ما هي إلا ضخ معلومات جديدة لأجهزتنا الإدراكية أو استنتاج تحليلات من تلك المعارف، فعشت حِقْبَة من حياتي شأني شأن هواة جمع الطوابع، يستهويني الاطّلاع على كتب المعلومات العامة، إذ كنت احسب أني كلما جَمّعت الكثير من البيانات، ازددت علماً.
لكن كلما مضى شراع العمر، اهتز هذا اليقين.
طالما حسبت أن المعرفة ما هي إلا ضخ معلومات جديدة لأجهزتنا الإدراكية أو استنتاج تحليلات من تلك المعارف، فعشت حِقْبَة من حياتي شأني شأن هواة جمع الطوابع، يستهويني الاطّلاع على كتب المعلومات العامة، إذ كنت احسب أني كلما جَمّعت الكثير من البيانات، ازددت علماً.
لكن كلما مضى شراع العمر، اهتز هذا اليقين.
فقد الح عليّ هاجس مفاده أن الزخم المعرفي أو الكراكيب المعرفية تشتت الإدراك، لكني لم أجرؤ على المجاهرة بإمكانية وجود عواقب سلبية للاستزادة المعرفية، إلى أن قرأت جملة للدكتور جلال أمين في كتابه “مكتوب على الجبين” كشف فيه عن خاطر راوده حين تاه بالطريق السريع بإحدى مدن الولايات المتحدة بالرغْم من وجود العديد من اللافتات التعريفية التي وضعت لتساعده على الوصول لغايته، إلا أن تصميمه على تتبع كل ما كتب في تلك اللافتات زاده تيهاً، فكتب:”إن المعرفة ليست إضافة معلومات جديدة، بل استبعاد بعض المعلومات من الكَمّيَّة الضخمة من المعلومات المطروحة عليك”.
فالتيه الذي صادفه لم يكن لقلة التوجيهات، الإشارات أوالمعلومات التي اتبعها في أثناء سيره، بل لكثرتها، كما تبين له أن هناك لافتات يجب الالتفات إليها، وأخرى من الضروري تجاهلها.
وكأني كنت ابحث عمن يؤكد أفكاري، لذا، فقد سعدت أيضًا باطلاعي على أطروحة “هنري برجسون” في بحثه عن العِلاقة بين الذاكرة والإدراك الحسي حينما أورد أن “وظيفة المخ والجهاز العصبي والحواس هي أساسًا استبعادية وكنت أحسبها اضافية.
فالبشر قادرين على تذكر معظم ما مر بهم من تجارِب وأحداث، عدا أهليتهم لإدراك ما يحدث في محيطهم، فتتجلي وظيفة المخ في حماياتهم من الغرق في أعداد لا متناهية من المعلومات التي لا طائل منها، وذلك باستبعاد المخ للجزء الأكبر الذي يتعرض له المرء من بيانات في أي لحظة تاركاً فقط ذلك القسط المحدود والمختار بعناية، ليكون له فائدة للفرد.
فكل شخص يحمل ذهناً ضخمًا، ويجب أن يمر ذلك الذهن الضخم على صمامين (فلترين)، صمام المخ والجهاز العصبي، فلا يسمح بالخروج من هذا الصمام إلا لجزء محدود للغاية يمثل ذلك النوع من الوعي الذي يساعدنا على البقاء.
– فالتلميذ المتفوق يذاكر بذكاء دون إرهاق نفسه بمراجعة كل المواد كلمة، كلمة، فلديه القدرة على التركيز على المهم وإسقاط الغير هام.
فقد تبين لي أن النجاح رهين بتطبيق نظرية المعرفة بالسالب لا بالزائد.
ولليوم أذكر أهم وصايا مشرفتي بالجامعة:
ستغريكم عشرات الرسائل على فتحها، فالانتقاء واجب.
ستدخلون المكتبة فتفاجئون بالآف الكتب، فالاختيار ضروري.
ستقابلون في أروقه الجامعة مئات الطلاب محملين بمشاكلهم وأكاذيبهم واستغلالهم الصريح والمبطن، فالتجاهل حتمي.
ستطالعون في ورقة الاختبار أكثر من سؤال، فالأولوية لمن له نِقَاط أكبر.
فالنجاح مرتبط بقدرتكم على التمييز بين المهم والأقل أهمية والتافه مع تقدير الوقت وتحديد ما يستبعد، للالتفات للأولى، والنابغة لا يحتار حين يختار”.
-“لكثرة عرسانها، بارت”ليس مجرد مثل شعبي، فالخيارات حين تتناثر على التربة، يزهدها الإنسان، ويتشتت، ويحسب أن حاله في ديمومة الفلاح.
يحض الفرنسيون على أهمية التخلص من كراكيب الحياة:
كراكيب مكتبك لتصفى بصرك فتعين بصيرتك على رؤية وتفكير أعمق.
كراكيب المطبخ، ليتسع المكان ولا تتخبط فتختنق نفسياً.
كراكيب المنزل، فيبدوا مرتباً فتهدأ وتنأى عنك الطاقات السلبية.
كراكيب المنور، لينظف المكان وتنعدم الحشرات فننعم بالنظافة.
كراكيب خزانتك، فتمنح ما لا تحتاجه لسواك.
كراكيب أناس يؤذون أكثر مما يحسنون، فتبعد عنك السالب من البشر.
– لقد خلق الله مليارات من البشر. فقد يتابعك الآلاف على وسائل التواصل، وقد يكون أصدقاء المدرسة وزملاء الجامعة بالمئات، ورفقاء العمل بالعشرات، على أن أهل بيتك على قلتهم سيكونون معك في مرضك وحتى قبرك وسيدعون لك بعد وصولك لدار الحق.
وليس أغبي ممن يتصدق بوقته للكم على حساب الكيف، فلا طاقته ولا إمكاناته ستتسع لسبعة مليار من البشر.
لذا، فمعرفتك للصالحين ستُسهل عليك إقصاء كم مهول من المليارات السبعة لتتضح الصور أمامك فتختار من تأمنه كصديق فتقربه،
ومن يراك سندات ماليّة لتستبعده.
ومن تراه يصلح كشريك حياة، فتتزوجه.
ومن يدخرك لعثرات السلف، فتتجنبه.
ومن يتصل بك في مسرات التلف، فتحذره.
ومن وجوده حاصل كذابين الزفة، فتشطبه.
ومن يسارع لمجاملة من قهرك، فلتهجره.
ومن ضغط عليك لتوقع على توكيل عام يظلمك.
ومن يهبك فتات قلبه فيصدمك.
ثم من هو المُخْلَص الذي صدقاً يحبك ويكرمك.
أما لو قياسك للمعارف بالكم، فعدد الرمل قلوب ونساء، فاكبش ما تشاء وستهدر العمر هباء.
لكن نجاح علاقاتك يكمن في عدم الصهينة عن معرفة من تستبعد من دائرة محيطك قبل معرفتك لمن تجذب لعمق هذا المحيط، كي لا تضلّ كدكتور جلال أمين في “أوتوستراد” أمريكا.
-هب أنك تتناول العشاء في بوفيه مفتوح على أطايب الطعام المُنَوع والشهي، ألن تعتقد أن الأمر محمدة؟
ألن تود لو طال بك الأمد بإزاء هذه الموائد الممتدة بأصناف شتى مبهرة؟
ألن تسعى للاستفادة بأضعاف ما ستنفق؟
لكن لو لم تحسن اختيار ما ينفعك، إجادتك لاستبعاد ما يضرك، لكان الأمر مدمر لصحتك، وستخرج من الوليمة ناقمًا كونك لم تنل ما كنت تأمل في التهامه، حانقًا على من انقضوا على “الاستكوزا” و”الفوا جرا”.
ما يعني أن قدرة البوفيه المفتوح على إشباعك غدارة، لكنك لو عدت لبيتك خلال يوم عادي وأنت تعلم أن الغذاء المحضر بالبيت هو البازلاء والجزر مع الأرز مضافًا له مقدار من الضأن، فإنك ستُهيئ نفسك لهذه الوجبة. وسيتحقق لك الإشباع الفوري، كون المتوقع متاح، ثم أن المتاح متوقع، رُغم علمك بأن في العالم أضعاف تلك الأصناف، على أنّ إشباعك تحقق بأقصائك الفكري لما لا تتوقعه.
– كنت بصبايا اتسوق مع عائلتي بحي الزمالك لشراء حذاء وكلما كان المعروض في (الفترينة) كثير، كلما التبس عليّ الأمر، كما كنت أتشوش من ضغوط البائع اللحوح لدفعي للشراء، ولو كان الحذاء ضيقًا، لكن سيتسع بالمشي بحسب رأيه، وإن ضحى بالآم أقدامي التي لا تعنيه، ناهيكم عن ضغوطات والدتي التي توافق البائع – فقط – لتستعجلني بالانتقاء قبل نفاذ صبر والدي ما سيجعل الفرصة تفوتني ولربما تتدبس هي في ثمن الحذاء،
هذا عدا ضغوط الوالد الذي يحثني على اختيار الأرخص.
– فالتجارِب تشير لدور أجهزتنا الادراكية ومعارفنا في مساعدتنا في لحيظة من الزمن للتمييز بين الآراء المعرفية التي علينا استبعدها، ولو صدرت من المقربين، والأخرى التي علينا أن ندنيها أو نمررها دون أن تلتبس علينا كي لا نقمع انفسنا فنرتدي أحذية ضيقة تُقَطِع أقدامنا في دروب الحياة، أو نلبس خيارات أسوأ كزيجة مخطط لها أو دراسة مفروضة أو وظيفة أو سواهم من خيارات جوهرية.
صدقاً، إن شرعت في اشتباك قوي في خضم الحياة، فلتتسلح بمعرفة حرة من تأثيرات الغير -ولو مقربين- فتضيف المفيد وتهمش المشوش.
المزيد
1